الدكتور محمد بن بريكة هو أستاذ أصول الدين في معهد الفلسفة بجامعة الجزائر. جمع في دراساته بين الفلسفة والتصوف وإختارته جامعة كولومبيا الأمريكية كرجل السنة في الجزائر في 2017 وتلقى عرضا للتدريس فيها منذ شهر مارس الفارط، لكنه يقول “أنا سعيد في الجزائر”. ويحلل في هذا الحوار قضية المرجعية الدينية وما حقيقة المخاطر الطائفية التي تجري إثارتها في الساحة السياسية والاعلامية في كل مرة؟
السيد بن بريكة، لنبدأ من آخر القصة. هل هناك خطر حقيقي على المرجعية الدينية للجزائريين أم الاثارة الاعلامية في الموضوع موجهة فقط للاستهلاك وتلهية الناس على المشاكل الحقيقية للمجتمع؟
إذا نظرنا إلى السؤال الذي تفضلتم به نجده ينشطر إلى قسمين: الأول موضوعه المرجعية الدينية والثاني الحراك السياسي وعلاقته بهذه المرجعية. لا أقول إن المرجعية الدينية في الجزائر في خطر وإنما أقول أن النظام السياسي من الاستقلال إلى اليوم لم يعرها الاهتمام ربما لاعتقاده أن الشعب الجزائري لا يحتاج إلى عناية خاصة بتوجهاته الدينية. وهذا خطأ فادح لأن هناك تداخلا بين الدين والتربية والمواطنة والهوية.
وإذا نظرنا إلى المرحلة الأخيرة من تاريخ الاستقلال وأعني بداية التسعينيات وجدنا أن المرجعية الدينية تخلخلت بل إخترقت إختراقا واضحا ممثلا في ظهور التطرف بإسم الدين وإستيراد مرجعيات مشرقية خليجية شككت شبابنا في الواقع الديني الفطري الذي كان عليه الأجداد والآباء ولم يجد النظام السياسي حلا إلا الترخيص بتأسيس أحزاب ذات مرجعية دينية . ولكنه تفاجأ بأن بعض هذه الأحزاب له فهم مصادم تماما للمرجعية الدينية الجزائرية. وإذا نظرنا إلى وضع الطوائف والفرق والنحل التي تحاول التمكن من الفضاء الديني الجزائري علمنا يقينا بأننا بحاجة إلى جهد معتبر في المجالات التربوية والاجتماعية والسياسية والاعلامية والدينية للحفاظ على مرجعيتنا الدينية التي نشترك فيها مع الفضاء المغاربي بدوله الخمس والذي نستطيع أن نواجه بها الخطر القادم من الساحل ومن البحر ومن شبكات التواصل وغيرها من وسائل الغزو الفكري والديني المعاصرة.
وجوابا على الشق الأخير من سؤالكم أقول أن اليد السياسية ليست بريئة من إثارة نقاشات عقيمة حول قضايا وهمية أحيانا.
على ذكر إشتراك دول الفضاء المغاربي الخمس في المرجعية الدينية، هل يصح مصطلح “الاسلام المغاربي” ؟
في تقديري أننا بإمكاننا أن نقول الخصوصيات المرجعية المغاربية ونقصد بذلك الفهم المتميز عند علماء البيئة المغاربية لكثير من مسائل الدين. وهناك للأمانة مرجعيات ثلاث للطوائف الكبرى في الاسلام، أعني السنة والشيعة والخوارج. ونلاحظ أن داخل الطائفة السنية هناك تفاوت في الرصيد المرجعي لفهم الدين ولا أعتقد أن المغاربيين بحاجة كبيرة لاستيراد فهم قادم من بعض الدول الخليجية.
تطرقتم ايضا لقضية تسييس الدين. ما مدى مسؤولية النظام الحاكم في ذلك؟
أقول بأن الثورة الايرانية كانت السبب الرئيسي في النقاش العالمي الذي فتح من بداية الثمانينات حول التداخل بين الوظيفتين الدينية والسياسية. وفي الجزائر ظهرت الجماعة الأولى التي تبنت التشيع عقيدة ومنهجا في الحياة، وعلى رأسها الباحث الجزائري رشيد بن عيسى المقيم بفرنسا. ثم جاء أول معرض للكتاب سنة 1981 فتلقف الشباب منه أفكار وعقائد الطوائف المختلفة وكان له أثر كبير في بداية الابتعاد عن المرجعية الدينية. وحين ظهرت الأحزاب الاسلامية زاد الأمر إستفحالا وصار الناس يتداولون عناوين كبيرة ك”الدولة الاسلامية” و”الخلافة” و”الحكم بما أنزل الله” ودخل مفهوم “الجهاد في سبيل الله ” تحت تأثير الحرب الأفغانية التي إلتحق بها كثير من الشباب العربي. وهكذا شرعت دول عربية كثيررة في متابعات أمنية وقضائية للجماعات الاسلامية التي تشكلت بين بداية الثمانينات وبداية التسعينات أو التي كانت نائمة فوجدت الظرف مناسبا للعودة إلى الميدان. ثم فتح الفضاء العنكبوتي (الأنترنيت) عيون أشباه المثقفين والجهلة على أوهام جسدها لهم بالخطاب والصورة وقادت إلى تشكل المجموعات المسلحة والجميع يعلم حلقات هذا المسلسل الدامي الذي لم ينته إلى اليوم بظهور القاعدة وداعش وأخواتهما.
وإذا واصل الحكام العرب فهم الأمور على الطريقة التي نعرفها اليوم بعيدا عن تحليل العلماء والعناية الخاصة ببرامج التربية وفتح مراكز الدراسات الاستراتيجية المعمقة والاستعانة بالكفاءات البحثية ومحاربة الفقر والبطالة والفراغ والتفاوت الاجتماعي فإن الأسوأ ما زال قادما ونتيجته لن تكون سوى صورة قاتمة عن دين السلام والوئام والمحبة والرحمة.
لنبقى في النظام الجزائري بالذات. معروف عنه أنه يتحالف في كل مرة مع جماعة ضد جماعة إسلامية أخرى. هل هذه الاستراتيجية تساهم في إذابة الخلافات بين مختلف هذه الجماعات أم العكس تعمق الأزمة أكثر؟
إن المتأمل لتاريخ الاستقلال يجد أن كل مرحلة من مراحل الحكم مطبوعة بتحالف سياسي ديني يختلف من مرحلة إلى أخرى. وفي تقديري المتواضع أن هذه التحالفات أخطاء قاتلة لأن الحاكم قد يعتقد أن تثبيت أركانه يتم بهذه التحالفات والواقع أن الأمر ليس كذلك على الاطلاق. فالذي يجب يكون هو السير وفق الخطوات الثلاث التالية. أولا: الاعتناء بالمادة الدينية في الأطوار الابتدائية والثانوية بإعتبارها تعين على تعليم أبنائنا القيم السمحة للاسلام والنموذج الانساني الراقي لنبي الاسلام صلى الله عليه وسلم. ثانيا: تأسيس جامعة كبرى تضم التخصصات الانسانية كعلم الاجتماع والتاريخ والفلسفة والعلوم الاسلامية تضم مركزا كبيرا للبحث والمخطوطات والمخابر يتعلم فيها الطالب اللغات الأجنبية وتاريخ الحضارات وفلسفة القيم والمبادئ الساسية للإسلام بكل تفاصيلها حتى نخرج طلبة ينظرون إلى الآخر نظرة إحترام ونظرة تكامل لا نظرة عداء كما هو الشأن اليوم لخريجي طلبة العلوم الاسلامية في بلادنا. لأن الاحساس بأنك مخالف للآخر يجعلك في صراع دائم معه، وقد سمعتم عن تحريم دراسة الطب ودراسة الآداب والشعر والفن بإسم الشريعة الاسلامية.
أقاطعك أستاذ، في هذا الموضوع برزت قضية طالبات متفوقات يرفضن المنحة الجامعية للخارج من دون مرافقة من محرم. ما رأيك؟
هذا الموقف وغيره ناجم عن نوع الفتاوى التي يتليقنها ويدنن بها. وبعد هذا التعقيب،(يعود إلى موضوع الخطوات التي يجب السير عليها) ثالثا: إعادة النظر في المؤسسات الرسمية التي تخصصت في الشأن الديني كوزارة الشؤون الدينية والمجلس الاسلامي الأعلى وبرامج الجامعات الاسلامية والمشاركة الاعلامية المتخصصة في الشأن الديني في المؤسسات الرسمية والخاصة –ليس حجرا على حرية الفكر والتعبير وإنما حفاظا على صورة الوطن حتى لا يتكلم في الشأن الديني من هب ودب. وبالمناسبة أقول بأن هيكلة وزارة الشؤون الدينية تحتاج إلى إعادة نظر، وإن منصب مفتي الجمهورية يجب أن يخضع لاستشارات معمقة ولا يجب أن يتم تنصيب أعضائه ورئيسه بناء على الولاءات وإنما بناء على الكفاءات. كما يجب إبعاد الزوايا وكتاتيب القرآن عن التجاذبات السياسية، وأقدر أن تعاون الاعلام والتربية والتعليم والدراسة التقليدية والمؤسسة الأمنية والسياسة الرصينة سيعين على بناء سلوك ديني حضاري يحاور الآخر ويؤسس لسلوك مدني راق.
أنتم تدعون لفصل الدين عن السياسة. أليس كذلك؟
أنا أميز بين الوظيفتين الدينية والسياسية وأقول بتكاملهما علما بأن أركان الدين الخمسة موجودة في بلاد المسلمين كلها. فالدين حالة سلوكية قبل أن تكون أقوالا مجردة.
ما رأيكم في مصطلح الدولة الاسلامية وما رأي الطوائف الصوفية؟
أحب أن أضع ضبطا مصطلحيا قبل الجواب على سؤالكم: نطلق إسم الطائفة على إحدى الطوائف الاسلامية الثلاث هي السنة والشيعة والخوارج ونطلق إسم المذهب على المدرسة الفقهية التي لها إجتهاد في أحكام الدين (الفقه) ونطلق إسم الفرقة على الفرق الكلامية التي لها آراء في مجال العقائد كالأشعرية والمعتزلة والماتريدية… وإذا أردت أن تعرف رأيي في مصطلح الدولة الاسلامية فإني أقول لك أنه شعار براق تغري به المخابر الذكية أجيالنا التي تزج بها في الدماء والصراعات وتبعدها عن تعلم السلوك الرحيم وفهم مبادئ الاسلام الأخلاقية التي هي كما قال بعض العلماء “أقيموا القرآن في قلوبكم يقم على أرضكم”، ومعنى هذا الكلام إستقيموا تستقم أحوالكم بمختلف مظاهرها. والخلاف بين الصوفية و الاسلام السياسي منهجي. فأهل السياسة يقولون أعطيني كرسيا أحكمك بالاسلام، وأهل التصوف يقولون أعطيني فردا أربيه فيصلح المجتمع كله. وبين النظرتين مساحة أعرض من الصحراء.
أستاذ، ما زلت لم أفهم أين أصنف الصوفية. هل هي فرقة أم طائفة أم مدرة أم ماذا؟
الصوفية طريقة سنية للتربية.
نعود الآن لموضوع الساعة، أي الطريقة الكركرية. أنتم تدافعون عنها واوضحتم أن تسميتها تنتسب إلى جبل كركر في المغرب. لكن هذه التسمية أصبحت محل سخرية عن الجزائريين. ما تعليقكم؟
أحب أن ألفت نظر الجميع إلى أنني أتكلم بالعلم لا بالعاطفة وما قدمته لمختلف وسائل الاعلام في الجزائر كان موثقا بالمصادر العلمية لهذه الطريقة وبدراسة بعض المستشرقين حولها. وخلق الانصاف يدعونا إلى العدل في القول والعمل مع اليهود والنصارى والكفار ومختلف بني الانسان. فكيف والأمر يتعلق بطريقة سنية تقوم على تربية أتباعها على معاني الرحمة والحب والعدل والاحسان. إن الطريقة الكركرية ثمرة للطريقة الجزائرية الأم وهي الطريقة العلاوية نسبة للسيد أحمد بن مصطفى العلاوي المستغانمي، صاحب ال30 مؤلفا وصاحب جريدة البلاغ الذي كان في حوارات مستمرة مع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في الثلاثينات. وقد أخذ الشيخ طاهر الكركري عنه الطريقة ولقنها للشيخ حسن الكركري الذي لقنها بدوره للشيخ الحالي محمد فوزي الكركري الذي توجد زاويته بناحية “العروي” ببلدة الناضور وهو من مواليد 1974 وله مؤلفات عديدة يجب أن يقرأها الذين يتكلمون عن هذه الطريقة دون علم. أما السب والشتم والانتقاص عبر مواقع التواصل الاجتماعي فإنه لا يفيد في الوصول إلى الحقيقة وإنما يبث ألوان الكراهية والبغض بين المسلمين. وقد عاد كثير من اصحاب التصريحات مشكورين إلى الحق بعد أن إطلعوا على ما قلته حول أصول ومبادئ هذه الطريقة الصوفية الجزائرية الأصل. وأرجو من الاخوان العلماء والباحثين أن يقرأوا كتاب المستشرق الفرنسي الشاب أندريان زباتا وعنوانه “les fondements de la karkaria” المطبوع بباريس سنة 2016.
ربما الحساسية الموجودة بين النظامين الحاكمين في المغرب والجزائر ساهمت في هذا الخلط. وحتى شيخ الطريقة العلاوية خالد بن تونس –الجزائري- يتعرض لمضايقات في المغرب. ما رأيكم؟
إن الخلافات السياسية لا يجب أن تبعدنا عن البحث العلمي للوصول إلى الحقيقة وإن المعاملات التي يتعرض إليها الناس مجالها الفضاء السياسي أو الفضاء الأمني إن كانت كذلك. أما الفضاء الروحي فيجب أن يكون بمنأى عن التعاطي السياسي وإلا حصل خلط عظيم بين هذا وذاك. وأعتقد أن بعض الأطراف التي لا وجود لها في الواقع السياسي والامتداد الشعبي تحب أن تصنع لها أسماء من خلال هذا الموضوع وأخواته.